إن الخطوة الأخيرة التي اتخذتها المملكة العربية السعودية للحد من إنتاج أرامكو من النفط إلى 12 مليون برميل يوميًا، وليس 13 مليونًا كما هو مخطط له، تثير التكهنات. إن إعادة توجيه الأموال من التوسع في مجال النفط إلى التنويع يمكن أن يشير إلى الاعتراف بحتمية التحول الاقتصادي والسياسي بعيداً عن الوقود الأحفوري.

أثار التوجيه الأخير من الحكومة السعودية إلى شركة النفط الوطنية السعودية أرامكو، والذي يقضي بخفض مستوى الطاقة الإنتاجية القصوى المستدامة الى 12 مليون برميل يوميًا بدلاً من 13 مليون برميل مع بداية العام 2024، تساؤلات عدة حول ما إذا كان هناك تحوّل في صناعة الوقود الأحفوري. وعليه فإن هذا القرار يدفع الى التفكير حول ما اذا كان ناتج عن الضغوطات المتزايدة على صناعة الوقود الأحفوري في ما يتعلق بضرورة التكيّف مع التحولات السريعة، أم هو تحرك استراتيجي لاحتياطي النفط لتوظيفها في فرص أكثر ملاءمة في المستقبل؟

وقال وزير الطاقة الأمير عبد العزيز بن سلمان في كلمته بالمؤتمر الدولي لتكنولوجيا البترول في الظهران “أعتقد أننا أجلنا هذا الاستثمار لأننا ببساطة… نشهد تحولا”. مشيرا إلى أن التحول يعني أن شركة النفط أرامكو تتحول من شركة هيدروكربونات إلى شركة طاقة. وأضاف أن أرامكو لديها استثمارات أخرى لتنفيذها، منها استثمارات في النفط والغاز والبتروكيماويات والطاقة المتجددة.

من الواضح أن المملكة العربية السعودية تعترف بحتمية انتقال الطاقة ولكنها لم تحتضن بعد بشكل كامل حقيقة هذا التحول والذي يترتب عليه ضرورة بقاء الوقود الأحفوري وراءنا بدلاً من محاولة جره معنا. وسيتعين على المملكة أن تتصالح مع هذا الواقع لتحقيق تطلعات الرؤية السعودية 2030 التي تهدف إلى دفعهم نحو مستقبل مستدام ومزدهر.

تواجه المملكة العربية السعودية آثار تغير المناخ، مع تهديدات مثل التصحر والعواصف الترابية، والتي يمكن أن تعيق جهود التنويع الاقتصادي في القطاعات الحيوية مثل السياحة والرياضة، ويؤكد ذلك أهمية الانتقال بعيدًا عن الوقود الأحفوري لتحقيق الأهداف المحددة في الرؤية السعودية 2030. على برامج رؤية السعودية 2030، وخاصة تلك المتعلقة بالاستدامة البيئية ونوعية الحياة، ان تدرك ضرورة الانتقال بعيدًا عن الوقود الأحفوري وأن تتبنى هذا التغيير بالكامل. إن تنويع محفظتها الاقتصادية بعيدًا عن الوقود الأحفوري التقليدي، مثل الغاز والنفط، أمر لا بد منه. ومن خلال الاعتراف بحتمية هذا الانتقال، يمكن للمملكة اغتنام الفرصة للاستثمار بكثافة في مصادر الطاقة المتجددة والتقنيات المستدامة. إن تبني محفظة طاقة متنوعة لا يخفف من الآثار البيئية للاعتماد على الوقود الأحفوري فحسب، بل يعزز أيضًا المرونة الاقتصادية على المدى الطويل وخلق فرص العمل في الصناعات الخضراء الناشئة.

لذلك، فإن التحول بعيدًا عن النفط يجب توجيهها بشكل حاسم نحو بدائل مستدامة وموثوقة، وخاصة مصادر الطاقة المتجددة، بدلاً من الترويج للغاز الطبيعي كحل انتقالي «منخفض الانبعاثات». كوكبنا لا يتحمل تأجيلات مماثلة لمواجهة تحديات تغير المناخ. والمطلوب الآن هو اتخاذ إجراءات جريئة وفورية نحو حلول حقيقية للطاقة خضراء.

في السنوات الأخيرة انخفضت تكلفة مصادر الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، بشكل كبير مما جعلها قادرة على المنافسة بشكل متزايد مع الوقود الأحفوري التقليدي. وكشفت الوكالة الدولية للطاقة  (IRENA)، إن بين عامي 2010 و 2022 نافست كل من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح الوقود الأحفوري من ناحية التكلفة حتى بدون دعم مالي. إن موقع المملكة العربية السعودية ومناخها ومساحاتها الشاسعة من الأراضي غير المأهولة تجعلها موقعًا واعدًا لتوليد الطاقة الشمسية.

تمر المملكة العربية السعودية والمستثمرون بلحظة محورية، حيث يواجهون إدراكًا بأن عصر هيمنة الوقود الأحفوري يقترب من نهايته، وأن مستقبل الطاقة يكمن في استثمارات الطاقة المتجددة. وعلى الرغم من تردد المملكة العربية السعودية، ربما لحماية قيمة استثماراتها الحالية خلال هذه المرحلة الانتقالية، فإن الاتجاهات العالمية تشير إلى خلاف ذلك. أشارت وكالة الطاقة الدولية (IEA) إلى أن الطلب على الوقود الأحفوري سيصل إلى الحد الأقصى في هذا العقد، وتبدو المملكة العربية السعودية مترددة في تقبل هذه الحقيقة بشكل كامل.

إذا أوقفت المملكة العربية السعودية، وهي واحدة من أكبر منتجي النفط في العالم، التوسعات وأعادت توجيه الأموال المخصصة للتوسع نحو تنويع اقتصادها، فسوف ترسل رسالة واضحة مفادها أن التخلص التدريجي من الوقود الأحفوري هو ضرورة اقتصادية وسياسية. اذ كونها شركة عملاقة في صناعة النفط، فإن تحرك المملكة العربية السعودية سيكون له صدى في جميع أنحاء العالم مما يجبر العديد من الدول المنتجة للنفط مثل الإمارات والكويت على إعادة التفكير في خططها التوسعية.

اختتم مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ (COP28) العام الماضي باتفاق يشير إلى “بداية نهاية” عصر الوقود الأحفوري من خلال تمهيد الطريق للانتقال السريع والعادل والمنصف. وهذا يعني أن التغيير يجب أن يحدث سواء بالاختيار أو بالالتزام، فلا مكان للوقود الأحفوري بيننا في المستقبل. ومع ذلك، اتخذت المملكة العربية السعودية موقفًا حازمًا ضد أي ذكر للوقود الأحفوري في الاتفاقية، وعارضت الدعوة إلى التخلص التدريجي من الوقود الأحفوري لمكافحة ظاهرة الاحتباس الحراري.

وتجدر الإشارة إلى ان في ضوء الالتزام العالمي الذي تم اعلانه في قمة المناخ COP28، تبنى ممثلو ما يقرب 200 دولة اتفاقا ينص على أن العالم سوف يتحول بعيدًا عن الوقود الأحفوري للوصول إلى صافي انبعاثات صفري بحلول العام 2050.

رسم ملامح الغد: تمكين اقتصاد الرفاهية من أجل مستقبل مستدام

في حين تشكل الطاقة المتجددة عنصرا هاما في التحول نحو مستقبل مستدام، فمن الضروري أن ندرك أنها ليست الحل الوحيد. هناك حاجة الى تعاون عالمي عاجل للدعوة إلى تغيير نظامي أوسع نطاقا يتجاوز إنتقال الطاقة ويشمل اقتصادًا أكثر تنوعًا، مع الأخذ بعين الاعتبار المصادر البديلة لسبل العيش والتنمية الاقتصادية التي تعطي الأولوية للاستدامة والرفاهية.

إن الاقتصادات التي تعتمد على عائدات الوقود الأحفوري تقف الآن أمام مفترق طرق، تبني فرصة الانتقال نحو نماذج اقتصادية أكثر إنصافا تفضل رفاهية مواطنيها على مبدأ منهجية النمو اللامتناهي. ونحن نلاحظ هذا التحول التدريجي في دول مثل الإمارات والمملكة العربية السعودية، مدفوعا بمبادرات التنويع الاقتصادي.  وتقوم هذه المبادرات بتوجيه استثمارات كبيرة إلى قطاعات مثل السياحة والتكنولوجيا والرياضة وغيرها من المجالات الرئيسية. ومع ذلك، لكي يكون هذا التوسع الاقتصادي فعالًا حقًا ويكون له تأثير دائم، يجب أن يتزامن مع خفض الاستثمارات في النفط والغاز. ويشكل توجيه هذه الاستثمارات نحو تطوير وتبني التقنيات والابتكارات المستدامة والتحول نحو مصادر الطاقة المتجددة خطوة بالغة الأهمية. ويتجاوز هذا النهج مجرد تنويع المحفظة الاقتصادية، إنه يمثل التزاما بمستقبل لا يقاس فيه النجاح الاقتصادي بالإنجازات المالية فحسب، بل أيضا بمدى توافقه مع المسؤولية البيئية والاستدامة طويلة المدى لعالمنا.

تمثل الفترة الحالية من عدم الاستقرار غير المسبوق في صناعة الوقود الأحفوري فرصة حاسمة للضغط من أجل العمل على تعاون عالمي عاجل في الدعوة إلى تغيير منهجي أوسع. ويعطي هذا التغيير الأولوية للاقتصاد المستدام على حساب نموذج الاقتصاد الاستخراجي، مع التركيز على رفاهية الناس والكوكب في جوهره. ومن الضروري أن ندرك بأن هذا التغيير المنهجي يتطلب تعاونًا والتزامًا من جانب الحكومات والصناعات  وأصحاب المصلحة العالميين لتشكيل مستقبل اقتصادي مستدام يعود بالنفع على الناس والكوكب. وتتطلب هذه اللحظة المحورية أيضًا جهدًا عالميًا موحدًا لاعتماد حلول الطاقة المتجددة بسرعة ودفع التحول نحو مصادر الطاقة المستدامة الآمنة للجميع.

إنضم إلى الحراك!

من أفراد مهتمين بحماية كوكبنا وتحقيق السلام العالمي والوصول الى التغيير الإيجابي من خلال التحرك الفعلي! معاً لن يستطيع احد ايقافنا. غرينبيس هي منظمة مستقلة تعمل على إحداث التغيير في السلوك والتصرفات، بهدف حماية البيئة والترويج للسلام العالمي.

انضم إلينا