لقد كشف الغزو الروسي لأوكرانيا أشكال الضعف والفساد والعنف في منظومة الطاقة، لكنّه يفاقِم أيضًا أزمة الغذاء العالمية، ويطال هذا الأثر بعض المناطق بصورة أشدّ بكثير من سواها. فكما هي حال أزمة جائحة كوفيد-١٩، تؤثر هذه الحرب في الزراعة وإنتاج الغذاء، وتهدّد الأمن الغذائي مباشرة.

تتضاعف التفاوتات القائمة نتيجة هذه الحرب. ففي غرب أفريقيا مثلًا، حيث تتعرّض سُبُل المعيشة للخطر نتيجة صيد الأسماك المفرط وصناعتَيْ زيت السمك ودقيق السمك المدمّرتَيْن، بلغت معدّلات الجوع مستويات غير مسبوقة. وفي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حيث أعيش، وحيث نجد بلدانًا هشّة أساسًا كسوريا ولبنان واليمن، تعاني الأُسر بشدّة نتيجة ارتفاع أسعار المواد الغذائية.

ما الذي يحدث؟

بحسب الأمم المتّحدة، بلغت أسعار المواد الغذائية العالمية أعلى مستوياتها على الإطلاق في شهر آذار/مارس ٢٠٢٢ نتيجة الغزو الروسي لأوكرانيا، ومن المتوقع أن تستمرّ في الارتفاع عالميًا.

تعتمد بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بشكل أساسي على أوكرانيا و/أو روسيا لاستيراد المواد الغذائية، وخصوصًا القمح والحبوب، كما أنّ روسيا وأوكرانيا هما من أبرز مصدّري الحبوب حول العالم. ففي العام ٢٠٢٠، بلغت حصّة روسيا من إجمالي صادرات القمح العالمية ١٨.٧٪، فيما بلغت حصّة أوكرانيا خلال العام نفسه ٩.١٪. كذلك، فإنّ ٤٠٪ من صادرات أوكرانيا من القمح والذرة تستفيد منها بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

يسبّب النزاع الدائر حاليًا خللًا في سلاسل توريد الحبوب والبذور الزيتية، ويزيد من أسعار المواد الغذائية، ومن المتوقع أن يزيد من تكاليف الإنتاج المحلّي في القطاع الزراعي إلى حدّ بعيد. فتفوق حصّة روسيا وأوكرانيا من تجارة القمح العالمية ٣٠٪، و٣٢٪ من الشعير، و١٧٪ من الذرة، وأكثر من نصف زيرت دوار الشمس والبذور وعلف الحيوانات.

على سبيل المثال، يعتمد لبنان بشكل كبير على واردات القمح من أوكرانيا وروسيا لإنتاج الخبز العربي التقليدي الذي يُعدّ من مصادر الغذاء الأساسية في البلد.

لماذا يُعدّ ذلك مهمًا؟

عانى ملايين الناس في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من الآثار الشديدة للجوع وسوء التغذية قبل تفشي جائحة كوفيد-١٩ بفترة طويلة وإخلالها بسلاسل التوريد وتسبّبها بانكماش الإنفاق العام. وتؤدّي الحرب في أوكرانيا حاليًا إلى مفاقمة مشكلة انعدام الأمن الغذائي.

بحسب البنك الدولي، بلغت حصة منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من إجمالي من يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد في العالم ٢٠٪ في العام ٢٠٢٠، وهي نسبة مرتفعة للغاية عند اعتبار أن المنطقة لا تضمّ سوى ٦٪ من سكان العالم.

ونظرًا إلى أنّ ملايين الناس ما زالوا يعانون من الفقر المدقع في هذه المنطقة التي تشهد أعلى معدلات انعدام المساواة في العالم، من المرجّح أن يؤدّي أيّ ارتفاع في أسعار المواد الغذائية إلى آثار كارثية.

لقد أثبتت التجارب التاريخية مرّة تلو الأخرى أنّ الاستقرار السياسي يعتمد على قدرة الناس على تحمّل كلفة الغذاء. فهناك علاقة سببيّة متبادلة بين انعدام الأمن الغذائي والنزاعات، إذ يمكن لانعدام الأمن الغذائي الشديد أن يفاقم النزاعات، في حين أنّ النزاعات العنيفة هي من أبرز مسبّبات انعدام الأمن الغذائي.

موقفنا تجاه المسألةكما يُظهِر أحدث تقرير للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، فإنّ منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هي واحدة من أكثر الأماكن تأثرًا بالمناخ حول العالم.

تعاني منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أساسًا من ضغوط بيئية مثل نُدرة المياه، وتلوّث العواء، والإدارة السيّئة للنفايات، وتراجع خصوبة التربة والتنوّع البيولوجي والحياة البحريّة. وترزح مجتمعات المنطقة تحت وطأة تدهور الأمن الغذائي والمائي نتيجة التغيّرات المناخية.

من شأن تراجع غلّة المحاصيل والمداخيل، خصوصًا في حالة المزارعين الصغار، أن يؤثر سلبًا على سُبُل العيش، وقد يطال الأثر الأشدّ الأُسر الأكثر فقرًا والأكثر ضعفًا التي تعتمد على الزراعة لتأمين معيشتها.في الوقت نفسه، وُصِف الوضع في اليمن على أنه أسوأ أزمة إنسانية في العالم، إذ يحتاج ٨٠٪ من السكان إلى مساعدات إنسانية، ولا ينفكّ الوضع يزداد سوءًا. وفي وقت سابق من هذا الشهر، أعربت الأمم المتّحدة عن خيبة أملها بعدما جمع مؤتمر للمانحين أقل من ثلث المبلغ الذي تعتبر أنه ضروري لمنع وقوع كارثة إنسانية في هذا البلد الذي مزّقته الحرب. وبحسب تقديرات الأمم المتّحدة، قد يبلغ عدد الأشخاص الذين يحتاجون إلى مساعدات غذائية في اليمن ١٩ مليونًا في النصف الثاني من العام ٢٠٢٢.

فضلًا عمّا سبق، يهدّد الوقود الأحفوري أيضًا الأمن الغذائي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مباشرةً: فملايين الأشخاص معرّضون لخطر تسرّب نفطي أو انفجار في خزّان صافر العائم المهجور. ففي حال وقوع حادثة مماثلة، قد تتضرّر مجتمعات الصيادين المقيمة على ضفاف البحر الأحمر بشدّة، كما أنّ مفارخ الأسماك قد تبقى ملوّثة لفترات طويلة.

ما الخطوات الواجب اتّخاذها؟

كشفت الحرب في أوكرانيا – تمامًا كما فعلت جائحة كوفيد-١٩ قبلها – هشاشة منظومة الغذاء الحالية واعتمادها الشديد على المدخلات الكيميائية المُنتَجة بواسطة الوقود الأحفوري وعلى تجارة السع العالمية، ما يسلّط الضوء على ضرورة اعتماد منظومة غذائية محلّية ومتنوّعة وأكثر قدرة على التأقلّم.

فينبغي على الحكومات الوطنية تصميم وتمويل سياسات عامّة تبني القدرة على الصمود على المدى البعيد وتعزّز السيادة الغذائية للمجتمعات المحلّية. وعلى وجه التحديد، ينبغي الابتعاد عن الإنتاج الصناعي للغذاء والتركيز مجدّدًا على مصادر محلّية للأغذية الصحّية لكلّ من البشر والنُظُم الإيكولوجية التي نعتمد عليها.

الغذاء المحلّي، الزراعة المحلّية

ينبغي علينا إعادة النظر في أساليبنا الزراعية وفي الأغذية التي نتناولها. فقد فضحت الحرب الروسية-الأوكرانية مكامن الخلل في منظومة الغذاء والزراعة الصناعية والقائمة على التسليع، وهي منظومة غذاء عالميّة غير سليمة وترزح تحت وطأة أنماط الغذاء غير المستدامة للطبقة الفاحشة الثراء وتحت آثار تغيّر المناخ وفقدان التنوّع البيولوجي، وتراجع خصوبة التربة نتيجة الاستخدام المفرط للكيماويات الزراعية.

لذا، فمن الضروري الانتقال نحو منظومة غذائية مستدامة قائمة على السيادة الغذائية والزراعة الإيكولوجية لضمان صحّة البشر والكوكب.

تسعى عدّة مبادرات زراعية تقودها منظمات المجتمع المدني أو الحركات الشعبية إلى تعزيز السيادة الغذائية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فعلى سبيل المثال، يحوّل الناس في الأردن الأراضي الحضريّة غير المستغلّة إلى حقول قمح مُنتِجة. وفي لبنان، عملت المجتمعات المحلّية، التي عانت بشدّة من آثار الجائحة، على تنظيم جهودها لتعزيز الزراعة الحضرية والحدائق المجتمعيّة.

العدالة الاجتماعية، العدالة المناخية

تستطيع المجتمعات والحكومات في دول الجنوب إيقاف دورة التبعيّة الناجمة عن الاستعمار الجديد عبر اعتماد مسارات بديلة للتنمية، تعطي الأولوية للناس بدلًا من أرباح الشركات، وتضمن الملكية المجتمعيّة والتوزيع العادل لأصول كالبذور والأراضي والأدوات. ولا بدّ لأيّ نهج مستدام أن يشمل مساعي التكيّف مع الاحترار العالمي وأن يكون قائمًا على حقوق الإنسان.

ينبغي على معظم دول العالم أن تبادِر إلى المشاركة في المفاوضات المتعلّقة بآثار التغيّر المناخي. ويشمل ذلك إعداد خطط التخفيف والتكيّف، وعلى الأخص ضمان وفاء الدول الثرية الملوّثة بالتزاماتها عبر التعويض عن الآثار والأضرار المدمّرة الناجمة عن الأزمة المناخية.

لن تُقدَّم لنا حقوقنا على طبق من فضّة، بل علينا المطالبة بها.

محمد تزروتي هو مسؤول حملات في غرينبيس الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مقيم في المغرب

مصادر غرينبيس

المصادر الخارجية