من المُتوقّع أن تكون قمة المناخ COP28 التي ستُعقد في دبي في وقتٍ لاحقٍ من هذا الشهر، أكبر قمة لمؤتمر الأطراف المعني بتغير المناخ على الإطلاق. وهي تُمثّل فرصةً حاسمةً لقادة العالم لإظهار الشجاعة السياسية اللازمة لإنهاء عصر الوقود الأحفوري بشكلٍ عادل ومنصف، والمضي قدماً نحو مجتمع أكثر استدامةً وعدلاً. تقع على عاتقنا جميعاً مسؤولية التغيير، بما في ذلك عالم الشركات، من أجل معالجة حالة الطوارئ المناخية.

يسعى جدول أعمال مؤتمر الأطراف الطموح إلى توحيد جميع الفاعلين والمعنيين، بدءًا من الحكومات والشركات وصولاً إلى المجتمع المدني والشباب والمنظمات غير الحكومية، عبر بذل جهود مشتركة لتحقيق تقدم شامل باتجاه العمل المناخي الحقيقي.

وقد تمّ تسليط الضوء على أهمية هذا التعاون من خلال الرسالة المفتوحة الشهر الماضي قبل انعقاد قمّة المناخ، التي تمّ توجيهها من قبل أكثر من 100 عضو في تحالف قادة العمل المناخي من الرؤساء التنفيذيين الذين حذروا من أنّ هدف  الحد من ارتفاع درجة الحرارة العالمية إلى 1.5 درجة مئوية سيكون في خطر، ما لم يكن هناك تفعيل كبير للتعاون والعمل بين القطاعين العام والخاص، من أجل تسريع عملية خفض الانبعاثات عبر سلاسل التوريد العالمية. 

وإلى جانب دعوة صانعي السياسات العالميين إلى التحرّك وتوسيع نطاق عملهم، دعا تحالف الرؤساء التنفيذيين وكبار المسؤولين التنفيذيين إلى تكثيف وتوسيع الاستثمارات في الطاقة المتجددة وشبكات الطاقة.

وسيعمل خلال قمة المناخ (COP28) أكثر من 500 شركة وأصحاب الأعمال الخيرية على تنسيق الاستراتيجيات لمعالجة الفجوة الحاصلة على صعيد التمويل السنوي التي تزيد عن 3 تريليون دولار أميركي، من أجل تحقيق الانتقال نحو صافي انبعاثات صفري، عكس فقدان الطبيعة واستعادة التنوع البيولوجي. لذا لا يُمكننا أبداً أن نُبالغ في ضرورة وأهمية الاستثمار في كوكبنا. إذ أظهر “التحذير الأخير” من الهيئة الدولية المعنية بتغير المناخ أنّ تغيّر المناخ “يسير بخطىً سريعة”، ما يعني أنّ الكوكب في مأزق؛ فالطبيعة تُعاني، ودرجات الحرارة العالمية تتجه إلى الارتفاع، وتُسبب حرائق الغابات والفيضانات المُتكررة أكثر من أي وقت مضى دمارًا لملايين الأشخاص في منطقتنا والعالم. لذلك، يعتمد مستقبلنا بحد ذاته على نموذج اقتصادي يُوازن بين الربح والاستدامة ورفاه الكوكب والناس.

إنّ الحلول من أجل تحقيق مستقبل مُستدام وعادل جاهزة بالأصل، والأموال المطلوبة لتحقيق هذا الأمر مُتوفّرة. لذا إنّ التسويق لحجّة عدم وجود أموال كافية لتحقيق أهداف المناخ لم تعد مقبولة على الإطلاق. ويتعيّن بالتالي على الدول الغنية أن تخلع عباءة “التقشّف” وتتخذ إجراءات حاسمة في هذا المجال، بما في ذلك العمل على وقف دعم وتمويل شركات الوقود الأحفوري. 

إنّ مبدأ “على الملوثين أن يدفعوا”، والذي بموجبه يتحمّل الملوثون التاريخيون مسؤولية الدمار الذي تسببوا به، لن يُساهم فحسب في توفير الموارد المالية اللازمة، لكنّه أيضاً سيجعلهم يتحمّلون مسؤولية الخسائر والأضرار البيئية التي يتسببون بها. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أشارت التقديرات إلى أنّ الخسائر والأضرار الناجمة عن فيضانات باكستان العام الماضي وحدها تجاوزت الـ 30 مليار دولار أميركي. مع العلم أنّه بحلول عام 2030، تُظهر التقديرات إلى أنّ كلفة الخسائر والأضرار قد تُكلّف البلدان الفقيرة ما بين 290 إلى 580 مليار دولار سنويًا.

تدعو منظمة غرينبيس الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى أن تتبّع الشركات نهجاً مزدوجاً في معالجة أزمة المناخ. فمن جهة، يُعتبر إصلاح الشركات أمراً ضرورياً. إذ يتوّجب على الشركات أن تستثمر في الممارسات المستدامة، وأن تعتمد نموذجاً اقتصادياً يُوازن بين الربح والاستدامة ورفاه الكوكب والناس. ويُعدّ دمج مفهوم الاستدامة في العمليات الأساسية للشركة، منظومة قيمها واستراتيجياتها، أمراً بالغ الأهمية لمعالجة المسؤولية المُشتركة للشركات في قيادة الطريق نحو مستقبل أكثر استدامة.

أما من الجهة الثانية، فعلى الشركات أن تذهب إلى ما هو أبعد من مُجرّد الإمتثال للأنظمة، وأن تتبنّى بالتالي بشكلٍ فعّال التحوّل العادل نحو الطاقة المتجددة.

إنّ تنامي أهمية أخلاقيات الأعمال التجارية هو أمر لا يمكننا إنكاره على الإطلاق. ففي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يعتقد 78% من مستهلكي “جيل زد” أنّه يتوّجب على الشركات أن تتصرّف بشكل أخلاقي، وبما يتماشى مع توقعات المجتمعات. ويرى 76% من “جيل الألفية” أنّ العلامات التجارية تتحمّل مسؤولية إحداث تغيير إيجابي في العالم. وبات يرتبط  نجاح الأعمال التجارية ارتباطاً وثيقاً باستراتيجية قوية تتعلّق بالمعايير البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات، وهي استراتيجية تُوّلد قيمة طويلة المدى مع الحد الأدنى من الآثار الضارة على البيئة أو المجتمع.

يُوفّر الشرق الأوسط فرصة فريدة لمبادرات المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة (ESG) لتلعب دورًا مهمًا في الانتقال العادل نحو عالم أكثر خُضرة. وتُعتبر هذه المعايير بالذات وسيلة لتشجيع الصناعات المُلوّثة على المضي قدماً بالتغيير. مع العلم أنّ إعادة توجيه دعم الوقود الأحفوري من شأنه أن يمنح الشركات حافزًا إضافيًا للاستثمار في الممارسات البيئية والاجتماعية والحوكمة والممارسات التجارية الخضراء المستدامة، من أجل جذب مزيدٍ من الاستثمارات.

ومن المُحتمل أن تكون المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة أكثر فائدة من مفهوم المسؤولية الاجتماعية للشركات (CSR)، باعتبار المفهوم الأوّل يتجاوز مخاوف “المسؤولية الاجتماعية للشركات” بشأن التأثير الاجتماعي. وعوضاً عن ذلك، تتوسّع معايير ESG في الجوانب الاجتماعية والحوكمة، من خلال تحديد وقياس تبعات تجاهل المخاطر البيئية والمناخية – فلا يُعد تجنّب هذه المخاطر ترفًا أو خيارًا، لكنّه أصبح مقياسًا أساسيًا للمساهمين والمستثمرين.

أمّا المفارقة الحقيقية فتكمن في أنّ هذه الأهمية بالذات التي تحظى بها المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة، هي التي أدت أيضاً إلى ظهور المخاوف ذات الصلة بالغسل الأخضر. وذلك مع حرص الشركات على أن تظهر بمظهر الاستجابة لمخاوف المُستهلكين المهتمين بالمناخ، لكن مع مواصلة عملها على النحو المعتاد. 

تنتشر ظاهرة الغسل الأخضر في كل القطاعات. فلا يتعلّق الأمر فقط بالصور المُستوحاة من الطبيعة أو العبارات الخضراء الرنّانة – لكنّه يرتبط بالشركات التي تواصل أعمالها المُلوّثة على النحو المعتاد، بينما تتظاهر بأنّها تعمل بطريقةٍ أفضل. مع العلم أنّ المخاطر الشائعة تشمل الإدعاءات المشبوهة والكاذبة حول اعتماد الاستدامة؛ الكشف الانتقائي عن المعلومات البيئية والاجتماعية والحوكمة؛ وغياب التحقق عن طريق طرف ثالث.

يُمثّل التمويل الأخضر فرصةً هامة أخرى، وهي غير مُستغلّة حالياً من قبل بلدان الشرق الأوسط التي تتمتّع بأسواق رأسمالية مُتطوّرة. مع ذلك، لم يواكب القطاع المالي حتى الآن الجهود الأخرى المُكرّسة لمسألة الاستدامة البيئية. ومن الممكن أن يؤدي التمويل الأخضر، الذي يأخذ بعين الاعتبار التأثير البيئي للاستثمارات بالإضافة إلى العائدات المالية البحتة، إلى التعجيل بتحقيق أهداف المنطقة المُتمثلة في التنويع الاقتصادي وخلق فرص عمل. لكن لا تزال التحديات قائمة حتّى الآن بالرغم من التقدم الذي تمّ إحرازه. كما من المهم أن تتماشى السندات الخضراء بشكل حقيقي مع أهداف الاستدامة، وسيكون من الضروري مساءلة المؤسسات المالية عن استثماراتها، ما يُعزز بالتالي اعتماد الخيارات المسؤولة.

بالإضافة إلى ذلك، تستخدم الشركات في الشرق الأوسط أيضاً أداة أخرى مهمة، وهي ما يُعرف بتجارة انبعاثات الكربون (Emission Trading). ففي وقت تمت تغطية أكثر من 20% بحلول عام 2020 من انبعاثات غازات الدفيئة العالمية بضرائب الكربون أو أنظمة تداول الانبعاثات، لا يُمكن لتجارة الكربون أن تُشكّل بديلاً لخفض الانبعاثات. 

في هذا السياق، كشف تحقيق أنّ أرصدة الكربون في الغابات المطيرة المعتمدة من قبل المزود الرائد في العالم

 وهي شركة “فيرا”، أنّ أكثر من 90% من ائتمانات تعويض الغابات المطيرة للشركة كانت “عديمة القيمة ووهمية”، ولا تُمثّل بالتالي تخفيضات حقيقية للانبعاثات.

إذا قُمنا بالتعمّق قليلاً في أسواق الكربون فسنجد العديد من المشاكل والتحديات على صعيد مسألة الممارسة العملية. فهناك صعوبة في احتساب تعويض الكربون بدقّة بسبب النقص في المعلومات من جهة، أو باعتبار أنّ العديد من التقنيات تفترض وجود علاقة خطية بين الانبعاثات وتغيّر المناخ. كما وأنّها تفشل أيضاً في مراعاة مكان انبعاث ثاني أكسيد الكربون.

في المقابل، جعلت تجارة الكربون بعض البلدان النامية أكثر اعتماداً على التكنولوجيا الغربية، الأمر الذي أدى بالتالي إلى اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وفي بعض الحالات ساهم في ارتفاع أسعار المنتجات الزراعية والوقود.

ونذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث تعلّمت العديد من الشركات أن تتلاعب بنظام التداول المناخي أو نظام التجارة المناخية، وبدأت في إطلاق الغازات الدفيئة حتى تتمكن من كسب المال لتعويضها.

تتمتّع اليوم دبي والإمارات العربية بفرصةٍ فريدة لإرسال رسالةٍ قويةٍ إلى بقيّة العالم، مفادها أنّ القضاء على انبعاثات الوقود الأحفوري أمرٌ لا مفرّ منه وضروري للغاية. وعلى الرغم من أنّ الطريق أمامنا قد يبدو شاقاً وصعباً، وبخاصّة مع الاعتماد التاريخي للمنطقة على النفط والغاز، فإنّ هذه الرحلة تستحق كلّ العناء.

معاً نبدأ التغيير، ويُوفّر اليوم مؤتمر الأطراف (COP28) منصّة ديناميكية لنجتمع معًا ونخلق مستقبلًا مستدامًا للجميع. يجب علينا أن نتحرّك بسرعة، من دون تقديم أي تنازلات، وبإلتزامٍ ثابتٍ لا يتزعزع. 

إنضم إلى الحراك!

من أفراد مهتمين بحماية كوكبنا وتحقيق السلام العالمي والوصول الى التغيير الإيجابي من خلال التحرك الفعلي! معاً لن يستطيع احد ايقافنا. غرينبيس هي منظمة مستقلة تعمل على إحداث التغيير في السلوك والتصرفات، بهدف حماية البيئة والترويج للسلام العالمي.

انضم إلينا